فصل: ذكر مسير ابن وثاب والروم إلى بلد ابن مروان:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الكامل في التاريخ (نسخة منقحة)



.ذكر الحرب بين علاء الدولة وعسكر خراسان:

في هذه السنة اجتمع علاء الدولة بن كاكويه وفرهاذ بن مرداويج، واتفقا على قتال عسكر مسعود بن محمود بن سبكتكين، وكانت العساكر قد خرجت من خراسان مع أبي سهل الحمدوني، فالتقوا واقتتلوا قتالاً شديداً صبر فيه الفريقان، ثم انهزم علاء الدولة، وقتل فرهاذ، واحتمى علاء الدولة بجبال بين أصبهان وجرباذقان، ونزل عسكر مسعود بكرج.
وأرسل أبو سهل إلى علاء الدولة يقول له ليبذل المال، ويراجع الطاعة ليقره على ما بقي من البلاد، ويصلح حاله مع مسعود. فترددت الرسل، فلم يستقر بينهم أمر فسار أبو سهل إلى أصبهان فملكها، وانهزم علاء الدولة من بين يديه لما خاف الطلب إلى إيذج، وهي للملك أبي كاليجار.
ولما استولى أبو سهل على أصبهان نهب خزائن علاء الدولة وأمواله، وكان أبو علي بن سينا في خدمة علاء الدولة، فأخذت كتبه حملت إلى غزنة فجعلت في خزائن كتبها إلى أن أحرقها عساكر الحسين بن الحسين الغوري، على ما نذكره إن شاء الله تعالى.

.ذكر الحرب بين نور الدولة دبيس وأخيه ثابت:

في هذه السنة كانت حرب شديدة بين دبيس بن علي بن مزيد وأخيه أبي قوام ثابت بن علي بن مزيد.
وسبب ذلك أن ثابتاً كان يعتضد بالبساسيري ويتقرب إليه، فلما كان سنة أربع وعشرين وأربعمائة سار البساسيري معه إلى قتال أخيه دبيس، فدخلوا النيل واستولوا عليه وعلى أعمال نور الدولة، فسير نور الدولة إليهم طائفة من أصحابه، فقاتلوهم فانهزموا، فلما رأى دبيس هزيمة أصحابه سار عن بلده، وبقي ثابت فيه إلى الآن، فاجتمع دبيس وأبو المغرا عنازا ابن المغرا، وبنو أسد وخفاجة، وأعانه ابو كامل منصور بن قراد، وساروا جريدة لإعادة دبيس إلى بلده وأعماله، وتركوا حللهم بين خصاوحربى.
فلما ساروا لقيهم ثابت عند جرجرايا، وكانت بينهم حرب قتل فيها جماعة من الفريقين، ثم تراسلوا واصطلحوا ليعود دبيس إلى أعماله، ويقطع أخاه ثابتاً إقطاعاً، وتحالفوا على ذلك، وسار البساسيري نجدة لثابت، فلما وصل إلى النعمانية سمع بصلحهم، فعاد إلى بغداد.

.ذكر ملك الروم قلعة بركوي:

هذه قلعة متاخمة للأرمن في يد أبي الهيجاء بن ربيب الدولة، ابن أخت وهسوذان بن مملان، فتنافر هو وخاله، فأرسل خاله إلى الروم فأطمعهمم فيها، فسير الملك إليها جمعاً كثيراً فملكوها، فبلغ الخبر إلى الخليفة، فأرسل إلى أبي الهيجاء وخاله من يصلح بينهما ليتفقا على استعادة القلعة، فاصطلحا، ولم يتمكنا من استعادتها، واجتمع إليهما خلق كثير من المتطوعة، فلم يقدروا على ذلك لثبات قدم الروم بها.

.ذكر عدة حوادث:

في هذه السنة استوزر جلال الدولة عميد الدولة أبا سعد بن عبد الرحيم، وهي الوزارة الخامسة، وكان قبله في الوزارة ابن ماكولا، ففارقها وسار إلى عكبرا، فرده جلال الدولة إلى الوزارة، وعزل أبا سعد، فبقي أياماً، ثم فارقها إلى أوانا.
وفيها استخلف البساسيري في حماية الجانب الغربي ببغداد لأن العيارين اشتد أمرهم وعظم فسادهم، وعجز عنهم نواب السلطان، فاستعملوا البساسيري لكفايته ونهضته.
وفيها توفي أبو سنان غريب بن محمد بن مقن في شهر ربيع الآخر، في كرخ سامرا، وكان يلقب سيف الدولة، وكان قد ضرب دراهم سماها السيفية، وقام بالأمر بعده ابنه أبو الريان، وخلف خمسمائة ألف دينار، وأمر فنودي: قد أحللت كل من لي عنده شيء فحللوني كذلك، فحللوه، وكان عمره سبعين سنة.
وفيها توفي بدران بن المقلد، وقصد ولده عمه قرواشاً، فأقر عليه حاله وماله وولاية نصيبين، وكان بنو نمير قد طمعوا فيها وحصروها، فسار إليهم ابن بدران فدفعهم عنها.
وفيها توفي أرمانوس ملك الروم، وملك بعده رجل صيرفي ليس من بيت الملك، وإنما بنت قسطنطين اختارته.
وفيها كثرت الزلازل بمصر والشام، وكان أكثرها بالرملة، فإن أهلها فارقوا منازلهم عدة أيام، وانهدم منها نحو ثلثها، وهلك تحت الهدم خلق كثير.
وفيها كان بإفريقية مجاعة شديدة وغلاء.
وفيها قبض قرواش على البرجمي العيار وغرقه، وكان سبب ذلك أن قرواشاً قبض على ابن القلعي عامل عكبرا، فحضر البرجمي العيار عند قرواش مخاطباً في أمره لمودة بينهما، فأخذه قرواش وقبض عليه، فبذل مالاً كثيراً ليطلقه، فلم يفعل وغرقه، وكان هذا البرجمي قد عظم شأنه وزاد شره، وكبس عدة مخازن بالجانب الشرقي، وكبس دار المرتضى، ودار ابن عديسة، وهي مجاورة دار الوزير، وثار العامة بالخطيب يوم الجمعة، وقالوا: إما أن تخطب للبرجمي، وإلا فلا تخطب لسلطان ولا غيره، وأهلك الناس ببغداد، وحكاياته كثيرة، وكان مع هذا فيه فتوة، وله مروءة، لم يعرض إلى امرأة، ولا إلى من يستسلم إليه.
وفيها هبت ريح سوداء بنصيبين فقلعت من بساتينها كثيراً من الأشجار، وكان في بعض البساتين قصر مبني بجص وآجر وكلس، فقلعته من أصله.
وفيها كثر الموت بالخوانيق في كثير من بلاد العراق، والشام، والموصل، وخوزستان، وغيرها حتى كانت الدار يسد بابها لموت أهلها.
وفيها، في ذي القعدة انقض كوكب هال منظره الناس، وبعد بليلتين انقض شهاب آخر أعظم منه كأنه البرق ملاصق الأرض، وغلب على ضوء المشاعل، ومكث طويلاً حتى غاب أثره.
وفيها توفي أبو العباس الأيبوردي، الفقيه الشافعي، قاضي البصرة، وأبو بكر محمد بن أحمد بن غالب البرقاني، المحدث، الإمام المشهور، وكانت وفاته في رجب، والحسين بن عبد الله بن يحيى أبو علي البندنيجي، الفقيه الشافعي، وهو من أصحاب أبي حامد الأسفراييني، وعبد الوهاب بن عبد العزيز بن الحارث بن أسد أبو الفرج التميمي الفقيه الحنبلي. ثم دخلت:

.سنة ست وعشرين وأربعمائة:

.ذكر حال الخلافة والسلطنة ببغداد:

في هذه السنة انحل أمر الخلافة والسلطنة ببغداد، حتى إن بعض الجند خرجوا إلى قرية يحيى، فلقيهم أكراد، فأخذوا دوابهم، فعادوا إلى قراح الخليفة القائم بأمر الله، فنهبوا شيئاً من ثمرته، وقالوا للعمالين فيه: أنتم عرفتم حال الأكراد ولم تعلمونا.
فسمع الخليفة الحال، فعظم عليه، ولم يقدر جلال الدولة على أخذ أولئك الأكراد لعجزه ووهنه، واجتهد في تسليم الجند إلى نائب الخليفة، فلم يمكنه ذلك، فتقدم الخليفة إلى القضاة بترك القضاء والامتناع عنه، وإلى الشهود بترك الشهادة، وإلى الفقهاء بترك الفتوى.
فلما رأى جلال الدولة ذلك سأل أولئك الأجناد ليجيبوه إلى أن يحملهم إلى ديوان الخلافة، ففعلوا، فلما وصلوا إلى دار الخلافة أطلقوا، وعظم أمر العيارين، وصاروا يأخذون الأموال ليلاً ونهاراً، ولا مانع لهم لأن الجند يحمونهم على السلطان ونوابه، والسلطان عاجز عن قهرهم، وانتشر العرب في البلاد فنهبوا النواحي، وقطعوا الطريق، وبلغوا إلى أطراف بغداد، حتى وصلوا إلى جامع المنصور، وأخذوا ثياب النساء في المقابر.

.ذكر إظهار أحمد ينالتكين العصيان وقتله:

في سنة خمس وعشرين عاد مسعود بن محمود من الهند لقتال الغز، كما ذكرناه، فعاد أحمد ينالتكين إلى إظهار العصيان ببلاد الهند، وجمع الجموع، وقصد البلاد بالأذى، فسير إليه مسعود جيشاً كثيفاً، وكانت ملوك الهند تمنعه من الدخول إلى بلادهم، وسد منافذ هربه.
ولما وصل الجيش المنفذ إليه قاتلهم، فانهزم ومضى هارباً إلى الملتان، وقصد بعض ملوك الهند بمدينة بهاطية ومعه جمع كثير من عساكره الذين سلموا، فلم يكن لذلك الملك قدرة على منعه، وطلب منه سفناً ليعبر نهر السند، فأحضره له السفن.
وكان في وسط النهر جزيرة ظنها أحمد ومن معه متصلة بالبر من الجانب الآخر، ولم يعلموا أن الماء محيط بها، فتقدم ملك الهند إلى أصحاب السفن بإنزالهم في الجزيرة والعود عنهم، ففعلوا ذلك، وبقي أحمد ومن معه فيها وليس معهم طعام إلا ما معهم، فبقوا بها تسعة أيام، ففني زادهم، وأكلوا دوابهم، وضعفت قواهم، فأرادوا خوض الماء فلم يتمكنوا منه لعمقه وشدة الوحل فيه، فعبر الهند إليهم عسكرهم في السفن، وهم على تلك الحال، فأوقعوا بهم وقتلوا أكثرهم، وأخذوا ولداً لأحمد أسيراً، فلما رآه أحمد على تلك الحال قتل نفسه، واستوعب أصحابه القتل والأسر والغرق.

.ذكر ملك مسعود جرجان وطبرستان:

كان الملك مسعود قد أقر دارا بن منوجهر بن قابوس على جرجان وطبرستان وتزوج أيضاً بابنة أبي كاليجار القوهي، مقدم جيش دارا، واقيم بتدبير أمره استمالة. فلما سار إلى الهند منعوا ما كان استقر عليهم من المال، وراسلوا علاء الدولة بن كاكويه وفرهاذ بالاجتماع على العصيان والمخالفة، وقوي عزمهم على ذلك ما بلغهم من خروج الغز بخراسان.
فلما عاد مسعود من الهند وأجلى الغز وهزمهم سار إلى جرجان فاستولى عليها وملكها، وسار إلى آمل طبرستان، وقد فارقها أصحابها، واجتمعوا بالغياض والأشجار الملتفة، الضيقة المدخل، الوعرة المسلك، فسار إليهم واقتحمها عليهم فهزمهم وأسر منهم وقتل، ثم راسله دارا وأبو كاليجار وطلبوا منه العفو وتقرير البلاد عليهم، فأجابهم إلى ذلك، وحملوا من الأموال ما كان عليهم، وعاد إلى خراسان.

.ذكر مسير ابن وثاب والروم إلى بلد ابن مروان:

فيها جمع ابن وثاب النميري جمعاً كثيراً من العرب وغيرهم، واستنجد من بالرها من الروم، فسار معه منهم جيش كثيف، وقصد بلد نصر الدولة بن مروان، ونهب وأخرب. فجمع ابن مروان جموعه وعساكره واستمد قرواشاً وغيره، وأتته الجنود من كل ناحية، فلما رأى ابن وثاب ذلك وأنه لا يتم له غرض عاد عن بلاده.
وأرسل ابن مروان إلى ملك الروم يعاتبه على نقض الهدنة وفسخ الصلح الذي كان بينهما، وراسل أصحاب الأطراف يستنجدهم للغزاة، فكثر جمعه من الجند والمتطوعة، وعزم على قصد الرها ومحاصرتها، فوردت رسل ملك الروم يعتذر، ويحلف أنه لم يعلم بما كان، وأرسل إلى عسكره الذين بالرها والمقدم عليهم ينكر ذلك، وأهدى إلى نصر الدولة هدية سنية، فترك ما كان عازماً عليه من الغزو، وفرق العساكر المجتمعة عنده.

.ذكر عدة حوادث:

فيها خرج أبو سعد، وزير جلال الدولة، إلى أبي الشوك مفارقاً للوزارة، ووزر بعده أبو القاسم، وكثرت مطالبات الجند، فهرب، فأخرج وحمل إلى دار المملكة مكشوف الرأس في قميص خفيف، وكانت وزارته هذه شهرين وثمانية أيام، وعاد أبو سعد بن عبد الرحيم إلى الوزارة.
وفيها، في ذي الحجة، وثب الحسن بن أبي البركات بن ثمال الخفاجي بعمه علي بن ثمال أمير بني خفاجة، فقتله، وقام بإمارة بني خفاجة.
وفيها جمعت الروم وسارت إلى ولاية حلب، فخرج إليهم صاحبها شبل الدولة بن صالح بن مرداس، فتصافوا واقتتلوا، فانهزمت الروم، وتبعهم إلى عزاز، وغنم غنائم كثيرة وعاد سالماً.
وفيها قصدت خفاجة الكوفة، ومقدمهم الحسن بن أبي البركات بن ثمال، فنهبوها، وأرادوا تخريبها، ومنعوا النخل من الماء فهلك أكثره.
وفيها هرب الزكي أبو علي النهرسابسي من محبسه، وكان قرواش قد اعتقله بالموصل، فبقي سنتين إلى الآن، ولم يحج هذه السنة من العراق أحد.
وفي هذه السنة توفي أحمد بن كليب، الأديب، الشاعر الأندلسي، وحديثه مع أسلم بن أحمد بن سعيد مشهور، وكان يهواه، فقال فيه:
أسلمني في هواه ** أسلم هذا الرشا

غزال له مقلة ** يصيب بها من يشا

وشى بيننا حاسد ** سيسأل عما وشى

ولو شاء أن يرتشي ** على الوصل روحي ارتشى

ومات كمداً من هواه.
وتوفي في جمادى الأولى منها أحمد بن عبد الملك بن أحمد بن شهيد الأديب الأندلسي، ومن شعره:
إن الكريم إذا نالته مخمصة ** أبدى إلى الناس شبعاً، وهو طيان

يحني الضلوع على مثل اللظى حرقاً ** والوجه غمر بماء البشر ملآن

وله أيضاً:
كتبت لها انني عاشق ** على مهرق اللثم بالناظر

فردت علي جواب الهوى ** بأحور عن مائه حائر

منعمة نطقت بالجفون، ** فدلت على دقة الخاطر

كأن فؤادي، إذا أعرضت، ** تعلق في مخلبي طائر

وفيها توفي أبو المعالي بن سخطة العلوي النقيب بالبصرة، وأبو محمد بن معية العلوي بها أيضاً، وأبو علي الحسين بن أحمد بن شاذان، المحدث الأشعري مذهباً، وكان مولده ببغداد سنة سبع وثلاثين وثلاثمائة، وحمزة بن يوسف الجرجاني، وكان من أهل الحديث. ثم دخلت:

.سنة سبع وعشرين وأربعمائة:

.ذكر وثوب الجند بجلال الدولة:

في هذه السنة ثار الجند ببغداد بجلال الدولة، وأرادوا إخراجه منها، فاستنظرهم ثلاثة أيام، فلم ينظروه، ورموه بالآجر، فأصابه بعضهم، واجتمع الغلمان فردوهم عنه، فخرج من باب لطيف في سميرية متنكراً، وصعد راجلاً منها إلى دار المرتضى بالكرخ، وخرج من دار المرتضى، وسار إلى رافع بن الحسين بن مقن بتكريت، وكسر الأتراك أبواب داره ودخلوها ونهبوها، وقلعوا كثيراً من ساجها وأبوابها، فأرسل الخليفة إليه، وقرر أمر الجند وأعاده إلى بغداد.

.ذكر الحرب بين أبي سهل الحمدوني وعلاء الدولة:

في هذه السنة سار طائفة من العساكر الخراسانية التي مع الوزير أبي سهل الحمدوني بأصبهان يطلبون الميرة، فوضع عليهم علاء الدولة من أطعمهم في الامتياز من النواحي القريبة منه، فساروا إليها، ولا يعلمون قربه منهم، فلما أتاه خبرهم خرج إليهم وأوقع بهم وغنم ما معهم.
وقوي طمعه بذلك، فجمع جمعاً من الديلم وغيرهم وسار إلى أصبهان، وبها أبو سهل في عساكر مسعود بن سبكتكين، فخرجوا إليه وقاتلوه، فغدر الأتراك بعلاء الدولة، فانهزم ونهب سواده، فسار إلى بروجرد، ومنها إلى الطرم، فلم يقبله ابن السلار، وقال: لا قدرة لي على مباينة الخراسانية، فتركه وسار عنه.

.ذكر وفاة الظاهر وولاية ابنه المستنصر:

في هذه السنة، في منتصف شعبان توفي الظاهر لإعزاز دين الله أبو الحسن علي بن أبي علي المنصور الحاكم، الخليفة العلوي، بمصر، وكان عمره ثلاثاً وثلاثين سنة، وكانت خلافته خمس عشرة سنة وتسعة أشهر وسبعة عشر يوماً، وكان له مصر، والشام، والخطبة له بإفريقية، وكان جميل السيرة، حسن السياسة، منصفاً للرعية، إلا أنه مشتغل بلذاته محب للدعة والراحة، قد فوض الأمور إلى وزيره أبي القاسم علي بن أحمد الجرجرائي لمعرفته بكفايته وأمانته.
ولما مات ولي بعده ابنه تميم معد، ولقب المستنصر بالله، ومولده بالقاهرة سنة عشر وأربعمائة، وفي أيامه كانت قصة البساسيري، وخطب له ببغداد سنة خمسين وأربعمائة.
وكان الحاكم في دولته بدر بن عبد الله الجمال الملقب بالأفضل، أمير الجيوش، وكان عادلاً، حسن السيرة.
وفي سنة تسع وسبعين وصل الحسن بن الصباح الإسماعيلي في زي تاجر إلى المستنصر بالله، وخاطبه في إقامته الدعوة له بخراسان وبلاد العجم، فأذن له في ذلك، فعاد ودعا إليه سراً، وقال للمستنصر: من إمامي بعدك؟ فقال: ابني نزار. والإسماعيلية يعتقدون إمامة نزار، وسيرد كيف صرف الأمر عنه سنة سبع وثمانين إن شاء الله تعالى.

.ذكر فتح السويداء وربض الرها:

في رجب من هذه السنة اجتمع ابن وثاب وابن عطير، وجمعا، وأمدهما نصر الدولة بن مروان بعسكر كثيف، فساروا جميعهم إلى السويداء، وكان الروم قد أحدثوا عمارتها في ذلك الوقت، واجتمع إليها أهل القرى المجاورة لها، فحصرها المسلمون وفتحوها عنوة، وقتلوا فيها ثلاثة آلاف وخمسمائة رجل، وغنموا ما فيها، وسبوا خلقاً كثيراً، وقصدوا الرها فحصروها، وقطعوا الميرة عنها، حتى بلغ مكوك الحنطة ديناراً، واشتد الأمر، فخرج البطريق الذي فيها متخفياً، ولحق بملك الروم، وعرفه الحال، فسير معه خمسة آلاف فارس، فعاد بهم.
فعرف ابن وثاب ومقدم عساكر نصر الدولة الحال، فكمنا لهم، فلما قاربوهم خرج الكمين عليهم، فقتل من الروم خلق كثير، وأسر مثلهم، وأسر البطريق وحمل إلى باب الرها، وقالوا لمن فيها إما أن تفتحوا البلد لنا، وإما قتلنا البطريق والأسرى الذين معه! ففتحوا البلد للعجز عن حفظه، وتحصن أجناد الروم بالقلعة، ودخل المسلمون، وغنموا ما فيها، وامتلأت أيديهم من الغنائم والسبي، وأكثروا القتل، وأرسل ابن وثاب إلى آمد مائة وستين راحلة عليها رؤوس القتلى وأقام محاصراً للقلعة.
ثم إن حسان بن الجراح الطائي سار في خمسة آلاف فارس من العرب والروم نجدة لمن بالرها، فسمع ابن وثاب بقربه، فسار إليه مجداً ليلقاه قبل وصوله، فخرج من الرها من الروم إلى حران، فقاتلهم أهلها، وسمع ابن وثاب الخبر فعاد مسرعاً، فوقع على الروم، فقتل منهم كثيراً، وعاد المنهزمون إلى الرها.

.ذكر غدر السناسنة وأخذ الحاج وإعادة ما أخذوه:

في هذه السنة ورد خلق كثير من أذربيجان، وخراسان، وطبرستان، وغيرها من البلاد يريدون الحج، وجعلوا طريقهم على أرمينية وخلاط، فوردوا إلى آني ووسطان، فثار بهم الأرمن من تلك البلاد، وأعانهم السناسنة، وهم من الأرمن أيضاً إلا أنهم لهم حصون منيعة تجاور خلاط، وهم صلح مع صاحب خلاط.
ولم تزل هذه الحصون بأيديهم منفردين بها، إلا أنهم متعاهدون إلى سنة ثمانين وخمسمائة، فملكها المسلمون منهم، وأزالوهم عنها، على ما نذكره إن شاء الله تعالى.
فلما اتفقوا مع الأرمن من رعية البلاد أخذوا الحاج فقتلوا منهم كثيراً، وأسروا، وسبوا، ونهبوا الأموال، وحملوا ذلك أجمع إلى الروم، وطمع الأرمن في تلك البلاد، فسمع نصر الدولة بن مروان الخبر، فجمع العساكر وعزم على غزوهم، فلما سمعوا ذلك، ورأوا جده فيه، راسله ملك السناسنة، وبذل إعادة جميع ما أخذ أصحابه، وإطلاق الأسرى والسبي، فأجابهم إلى الصلح، وعاد عنهم لحصانة قلاعهم، وكثرة المضايق في بلادهم، ولأنهم بالقرب من الروم، فخاف أن يستنجدوهم ويمتنعوا بهم، فصالحهم.

.ذكر الحرب بين المعز وزناتة:

في هذه السنة اجتمعت زناتة بإفريقية، وزحفت في خيلها ورجلها يريدون مدينة المنصورة، فلقيهم جيوش المعز بن باديس، صاحبها، بموضع يقال له الجفنة قريب من القيروان، فاقتتلوا قتالاً شديداً، وانهزمت عساكر المعز، ففارقت المعركة، وهم على حامية، ثم عاودوا القتال، وحرض بعضهم بعضاً فصبرت صنهاجة، وانهزمت زناتة هزيمة قبيحة، وقتل منهم عدد كثير، وأسر خلق عظيم، وتعرف هذه الوقعة بوقعة الجفنة، وهي مشهورة لعظمها عندهم.

.ذكر عدة حوادث:

في هذه السنة، في رجب، انقض كوكب عظيم غلب نوره على نور الشمس وشوهد في آخرها مثل التنين يضرب إلى السواد، وبقي ساعة وذهب.
وفيها كانت ظلمة عظيمة اشتدت حتى أن إنساناً كان لا يبصر جليسه، وأخذ بأنفاس الخلق، فلو تأخر انكشافها لهلك أكثرهم.
وفيها قبض على الوزير أبي سعد بن عبد الرحيم، وزير جلال الدولة، وهي الوزارة السادسة.
وفيها، في رمضان، توفي رافع بن الحسين بن مقن، وكان حازماً شجاعاً، وخلف بتكريت ما يزيد على خمس مائة ألف دينار، فملكها ابن أخيه خميس بن ثعلب، وكان طريداً في أيام عمه، وحمل إلى جلال الدولة ثمانين ألف دينار فأصلح بها الجند، وكانت يده قد قطعت لأن بعض عبيد بني عمه كان يشرب معه، فجرى بينه وبين آخر خصومة، فجردا سيفيهما، فقام رافع ليصلح بينهما، فضرب العبد يده فقطعها غلطاً، ولرافع فيها شعر، ولم تمنعه من قتال فقد عمل له كفاً أخرى يمسك بها العنان ويقاتل، وله شعر جيد، من ذلك قوله:
لها ريقة، استغفر الله، إنها ** ألذ وأشهى في النفوس من الخمر

وصارم طرف لا يزايل جفنه، ** ولم أر سيفاً قط في جفنه يفري

فقلت لها، والعيس تحدج بالضحى: ** أعدي لفقدي ما استطعت من الصبر

سأنفق ريعان الشبيبة آنفاً ** على طلب العلياء أو طلب الأجر

أليس من الخسران أن ليالياً ** تمر بلا نفع وتحسب من عمري

وفيها، في صفر، أمر القائم بأمر الله بترك التعامل بالدنانير المغربية، وأمر الشهود أن لا يشهدوا في كتاب ابتياع ولا غيره يذكر فيه هذا الصنف من الذهب، فعدل الناس إلى القادرية، والسابورية، والقاسانية. ثم دخلت:

.سنة ثمان وعشرين وأربعمائة:

.ذكر الفتنة بين جلال الدولة وبارسطغان:

في هذه السنة كانت الفتنة بين جلال الدولة وبين بارسطغان، وهو من أكابر الأمراء ويلقب حاجب الحجاب.
وكان سبب ذلك أن جلال الدولة نسبه إلى فساد الأتراك، والأتراك نسبوه إلى أخذ الأموال، فخاف على نفسه، فالتجأ إلى دار الخلافة في رجب من السنة الخالية.
وترددت الرسل بين جلال الدولة والقائم بأمر الله في أمره، فدافع الخليفة عنه، وبارسطغان يراسل الملك أبا كاليجار، فأرسل أبو كاليجار جيشاً، فوصلوا إلى واسط، واتفق معهم عسكر واسط، وأخرجوا الملك العزيز بن جلال الدولة، فأصعد إلى أبيه، وكشف بارسطغان القناع، فاستتبع أصاغر المماليك ونادوا بشعار أبي كاليجار، وأخرجوا جلال الدولة من بغداد، فسار إلى أوانا ومعه البساسيري، وأخرج بارسطغان الوزير أبا الفضل العباس بن الحسن بن فسانجس، فنظر في الأمور نيابة عن الملك أبي كاليجار، وأرسل بارسطغان إلى الخليفة يطلب الخطبة لأبي كاليجار، فاحتج بعهود جلال الدولة، فأكره الخطباء على الخطبة لأبي كاليجار، ففعلوا.
وجرى بين الفريقين مناوشات، وسار الأجناد الواسطيون إلى بارسطغان ببغداد، فكانوا معه، وتنقلت الحال بين جلال الدولة وبارسطغان، فعاد جلال الدولة إلى بغداد، ونزل بالجانب الغربي ومعه قرواش بن المقلد العقيلي، ودبيس بن علي بن مزيد الأسدي، وخطب لجلال الدولة به، وبالجانب الشرقي لأبي كاليجار، وأعان أبو الشوك، وأبو الفوارس منصور بن الحسين بارسطغان على طاعة أبي كاليجار.
ثم سار جلال الدولة إلى الأنبار، وسار قرواش إلى الموصل، وقبض بارسطغان على ابن فسانجس، فعاد منصور بن الحسين إلى بلده، وأتى الخبر إلى بارسطغان بعود الملك أبي كاليجار إلى فارس، ففارقه الديلم الذين جاؤوا نجدة له، فضعف أمره، فدفع ماله وحرمه إلى دار الخلافة، وانحدر إلى واسط، وعاد جلال الدولة إلى بغدا، وأرسل البساسيري والمرشد وبني خفاجة في أثره، فتبعهم جلال الدولة ودبيس بن علي بن مزيد، فلحقوه بالخيزرانية، فقاتلوه، فسقط عن فرسه، فأخذ أسيراً وحمل إلى جلال الدولة، فقتله وحمل رأسه، وكان عمره نحو سبعين سنة.
وسار جلال الدولة إلى واسط فملكها، وأصعد إلى بغداد، فضعف أمر الأتراك، وطمع فيهم الأعراب، واستولوا على إقطاعاتهم، فلم يقدروا على كف أيديهم عنها، وكانت مدة بارسطغان من حين كاشف جلال الدولة إلى أن قتل ستة أشهر وعشرة أيام.